الجمعة، 14 مايو 2010

قراءة في ليتورجيا عيدي " الصعود والعنصر’".. بقلم: الأب بسّام آشجي


غياب المسيح دعوة الشهادة له.. قراءة في ليتورجيا عيدي الصعود والعنصرة..

بقلم: الأب بسّام آشجي


مقدّمة

إن قصة المسيح لم تنتهِ بموته أو حتى بقيامته، ولن تنتهي بعد صعوده إلى السماء. بل تعيش الكنيسة حضوراً جديداً للمخلص حتى في غيابه. فينسكب الروح القدس عليها في العنصرة، لتُعيد، بإصغاءٍ مرهف لنداءاته، قراءة المُعطى الخلاصي كاملاً. بحيث ترتبط أحداث تاريخ الخلاص كافةً، وقد تتوجت بصعود المسيح إلى السماء وبعثه روحه القدوس. فتهتف إليه، وقد تكسّر الزمن فيها متواصلاً إلى الأبدية، وانفتح المكان مبعثراً نحو عمق السماء: " لقد ولدت كما شئت، وظهرت كما أردت، وتألمت بالجسد يا إلهنا، وقمت من بين الأموات واطئاً الموت بالموت، وارتقيت بمجدٍ يا مالئ الكل، وأرسلت إلينا الروح الإلهي، فنسبح ونمجد لاهوتك". وتؤكد الكنيسة أن حدث المسيح بمجملته يهدف لتأليه الإنسان: "يا رب بنزولك أبدت العدو، وبصعودك رفعت شأن الإنسان". هكذا تتأمل الكنيسة مجدداً "سر المسيح" في غيابه، فهلمَّ نتأمل معها:

المسيح هو إيليا الجديد

تتلو الليتورجيا المارونية عشية عيد الصعود المقدس قصة النبي إيليا الحي، وكذلك تفعل الليتورجيا الأرمنية، لتشاهدا من خلالها المسيح كأنه إيليا جديد يصعد إلى السماء، كما يفسر القديس نرسيس شنورهالي . وهذا ما ينسجم أيضاً مع شرح علماء الكتاب المقدس المعاصرين لنصي الصعود. وتُبرز أيقونة عيد الصعود السريانية هذهالحقيقة، فتصوِّر المسيح ممتطياً سحابة نارية، كإيليا النبي صاعداً إلى السماء. وكما منح إيليا تلميذه أليشع رسالته النبوية في غيابه، يمنح المسيح في صعوده تلاميذه أن يبشروا برسالته الخلاصية، حيث يمثلون سر حضوره الجديد.

صعود المسيح كمال تأليه الإنسان

إن أنسنة المسيح علامةً لتأليهنا.. تبلغ هذه الحقيقة عمقها في صعود الإنسان بيسوع المسيح إلى السماء، يقول مار نرساي الكلداني في ذلك: "لقد بلغ جنسنا العلاء الكبير من الألوهية التي لا تدرك". فالمسيح الذي صار إنساناً لأجلنا وانحدر إلى الجحيم بموته، " ليبحث عن آدم صورته الذي ضاع كاللؤلؤة الثمينة"، وحين وجده "حمله على منكبيه كالخروف الضال"، يصعد به "لا إلى الأرض ليضلَّ ويموت ثانية، بل إلى السماء التي تنفتح له مجدداً من أجل الابن الذي يُجلسه عن يمين مجد عظمة الآب".

إن صعود المسيح إلى السماء هو صعود آدم إلى الملكوت، "وتجديدٌ لنا على الأرض"، فتصلي الكنيسة في الطقس البيزنطي ممجّدة المسيح : "أيها المسيح الممجد، نزلت نحو الأرضيين وأقمت معك صورة آدم الملقاة في الجحيم، بما أنك إله، وأصعدتها إلى السماوات وأجلستها معك على عرش أبيك بما أنك رحيم ومحب للبشر".

ويتابع مار أفرام السرياني دهشته من صعود المسيح إلى السماء في "أناشيد نصيبن"، تلك التي بدأها في تجسّده، والتي أدهشت بوابو الجحيم عند قيامته وإقامته الإنسان. ويشترك معه هذه المرة في الدهشة الملائكة الذين ما تعوَّدوا أن يروا بشراً في السماء. وتهتف الليتورجيا بلسانهم متسائلة: "مَن هذا القوي؟".. لقد تعوّد الملائكة أن يروا "الترابي" على التراب، على الأرض، فكيف "يعتلي الضعيف عرش الملكوت؟". ويتابعوا تساؤلاتهم بحيرة، وربما بحسرة: "من هذا؟.. ما هذا المنظر؟.. إن المشاهَد هو إنسان!!".. "لماذا هو مخضبّ بالدم؟" .. وحالما يعرفوه أنه المسيح ابن الله يتناغمون هاتفين: "ارفعوا الأبواب ارفعوا.. لأن ملك المجد صعد إلى مجده... هذا هو بالحقيقة ملك المجد"...

تشاهد الليتورجيا المارونية في صعود المسيح إلى السماء تناغماً بين البشر والملائكة فتقول: أيها القدير، يا من يعليه السماويون والأرضيون رباً.."، وتؤكد أن صعود يسوع هو إتمام لرؤى الأنبياء فتهتف إليه: "هذا قال عنك: صعد الله بالمجد، الرب بصوت البوق! وذاك رآك سيداً جالساً على عرشٍ عالٍ، والملائكة يطيرون الواحد إلى الآخر هاتفين: قدّوس قدّوس قدّوس هو الرب إله الجنود! وآخر من ذا الآتي من آدوم وثيابه مخضبة بالدم؟ وآخر رآك فوق مناكب الكروبين، وآخر على أجنحة الروح. واحدٌ رآك قائماً من الموت، وآخر بشَّر بك رباً عزيزاً جباراً. واحدٌ أشار إليك آتياً على سحاب السماء، وآخر رآك صاعداً إلى العلى سابياً السبي ومعطياً الناس عطايا. وآخر يشدوك: " قال الرب لسيدي: أجلس عن يميني، حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك".

الروح القدس يدشن حضور المسيح الجديد

لقد وفّقت الكنيسة بين قول يسوع بعد قيامته لتلاميذه: "هاءنذا معكم كلَّ الأيام حتى انقضاء الدهر"، وبين غيابه وصعوده إلى السماء، بتجاوبها مع طريقة حضوره الجديد، وذلك باستقبالها المنفتح للروح القدس عطية القيامة. فالكنيسة، وهي "جسد المسيح السري"، كما يقول بولس الرسول، هي أيضاً علامة حضوره الجديد، وذلك بطرقتين: فيها، ومن خلالها. المسيح حيٌّ في الكنيسة من خلال إنجيلها وعباداتها وطقوسها وصلوات أعضاءها، وخصوصاً من خلال أسرارها والافخارستيا بنوع مميّز، تصلي الليتورجيا المارونية في ذلك فتقول: "ارتفعت عنّا أيها المسيح ولم تغادرنا، بل بقيت معنا في سرِّ محبتك العظيم، ووعدت أن تكون معنا إلى منتهى الدهر. هب لنا أن نتنعَّم بحضرتك السرّية، بعين الإيمان لا بعين الجسد، إلى أن نلقاك وجهاً لوجه في السماء، حيث أنت جالسٌ عن يمين الآب، فنسبحك ونمجدك إلى الأبد".

المسيح حيٌّ من خلال شهادة الكنيسة له، في كرازتها وخَدَمَاتها وأعمال البر والعدل والسلام، وكأن المسيحي يُحي المسيح ويجعله حاضراً من خلال شهادة حياته، فكلما أصغى للروح القدس عمّم حضور الرب الجديد لكل إنسان، هذا هو معنى تعدّد الألسنة يوم العنصرة، تصلي الليتورجيا البيزنطية فتقول: "يا رب، لما أرسلت روحك إلى الرسل.. ذهلوا مندهشين.. وتكلّموا بألسنٍ أخرى، حسبما وهبهم الروح..، مصطادين الأمم إلى الإيمان".

تُبارك الكنيسةُ المسيحَ على هذا الحضور الجديد فتهتف: "مبارك أنت أيها المسيح إلهنا، الذي أظهر الصيادين جزيلي الحكمة، وأنزل عليهم الروح القدس، وبهم اصطاد المسكونة. يا محب البشر المجد لك".

بالروح القدس استطاع التلاميذ فهم سرّ المسيح، الذي لم يشأ عند تجليه أن يبقى في اعتلان لاهوته، لكي يمنح نواة كنيسته، بطرس ويعقوب ويوحنا، الاندماج بالواقع الصليب من جهة، ومن جهة أخرى، لكي يُحمِّلهم مسؤولية الشهادة له وخدمة تأليه مُبشَّريهم به، تقول الليتورجيا البيزنطية في ذلك: "تجليت أيها المسيح الإله على الجبل. وبقدر ما استطاع تلاميذك شاهدو مجدك. لكي يفهموا، إذا ما رأوك مصلوباً أنك تتألم باختيارك. ويكرزوا للعالم أنك أنت حقاً ضياء الآب".

إن الروح القدس يمنح الفهم لسرّ المسيح، فالتلاميذ، ونحن من بعدهم، نفهم سر تألهنا الذي تحقق في حدث المسيح الذي "أظهر في ذاته أن الجوهر البشري يستطيع استرداد جمال الصورة الأول".

المسيح يصعد إلى السماء في الزمن ليعود منها في نهاية الزمن

إن إيمان الكنيسة بالمجيء الثاني للمسيح مستندٌ على كلام المخلص نفسه، وعلى قول الشاهدَين على صعوده وقد مثلا للتلاميذ بثيابٍ بيضاء: "إن يسوع، هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقاً إلى السماء". وبذلك لا تنفكُّ الكنيسة تترقب مجيء الرب المجيد. فالأيقونوغرافيا البيزنطية تجعل من المسيح الصاعد إلى السماء "ابن البشر" الذي تحدّث عنه الأنبياء، راكباً على سحاب السماء. فهو سيعود كما صعد، وبعودته يحقق عدل الله ودينونته .

الليتورجيا الأرمنية، حين كانت قديماً تحتفل لصعود المسيح إلى السماء في عيد القيامة، كانت تقيم في مساء العيد رتبة الترقب والانتظار. فبعد أن يصلّي المؤمنون الصلوات الخاصة بصعود المسيح إلى السماء، يتابعون سهرهم "في الصلاة والاستماع إلى النبوءات، ثم يسرج ثلاثة فتيان شموعاً ثمانية إشارة إلى اليوم الثامن رمز الأبدية ومجيء المسيح الثاني في مجده، وينتظرونه عند باب الكنيسة".

ونشاهد مجيء المسيح الثاني أيضاً في الليتورجيا الكلدانية في عودة إيليا. "فبعد انقضاء الأزمنة يرسل الله إيليا النبي ليخزي ابن الهلاك بغيرته المتوقدة، وتظهر علامة الصليب في السماء، وهي علامة ابن الله. وبعد اندحار ابن الهلاك، يظهر العروس السماوي من السموات، فيقيم الجميع من التراب، ويصعد الصالحين إلى الأعالي، ويزجُّ الأشرار في نار جهنّم. وتكون النهاية في تقديس الكنيسة، عروس المسيح، ممجدةً عريسها، فيأخذها معه ويصعدها إلى السماء، ويجلسها عن يمينه ويُمّتعها برؤياه، وينيرها بضياء وجهه، وتسبحه مثلما سبحته هنا في الكنيسة الأرضية ". أما الليتورجيا المارونية فتشاهد في صعود المسيح إلى السماء تحقيقاً لوعده لتلاميذه بأنه سيُعدّ لهم ولنا مكاناً عند أبيه :

قد غبت في وهج الضياء

يا ضياء من ضياء

في بيت الآب للرسل

هيأت عرش السماء

وجهك عنّا غاب

كيف نبلغ الآب؟

خاتمة

الكنيسة حية برأسها الحي وبروحها المحيي، ولا تعبر عن حياتها إلا بانسجام تأملها مع عملها، صلاتها مع خدمتها، أعيادها مع انفتاحاتها لحضارات الزمان والمكان، إلى أن نبلغ العيد الأبدي حيث الدعوة الكبرى في الملء بتلاشي التاريخ والكون.. ويستمر العيد أنشودة متواصلة، إنه دهر الداهرين.

http://iframalsiriani.jeeran.com/

http://soffanieh.blogspot.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق