السبت، 13 مارس 2010

المسلمـــــون والمسيحيّــــون في لبــــنان?! - بقلم: المطران جورج خضر

المسلمـــــون والمسيحيّــــون في لبــــنان?!

بقلم: المطران جورج خضر

إن لم تقم العلاقة بينهم على التقوى فهي ليست بشيء. وأهل التقوى واحد في كل الأمم لأن الله يستقطبهم ويوحدهم فيه على اختلاف ما يقولون فيه وفي أشيائه والسياسة تأتي بعد ذلك على قول المعلم الناصري: "إطلبوا أولا ملكوت الله وبره والباقي يزاد لكم". ذلك أن الذين يطلبون الآخرة يتوافر لهم ما يفيدهم في معاشهم هنا.

كتبت مرة ما مفاده أني لما كنت أرى في طفولتي من نوافذ أحد المساجد في طرابلس المسلمين يصلون كنت أتخشع إذ كنت افهم أن قوما آخرين يعبدون الله. كذلك احسب أنهم يتخشعون إذا تلوا شيئا من الإنجيل أو حضروا قداسا بيزنطيا. فالقبة هي كقباب المساجد والألحان شرقية والربوبية واحدة في ذاتها وفي نفوسنا كلينا. وأنا أحب منذ طفولتي إيقاع الآذان منذ الفجر حتى صلاة العشاء وهو يغنيني عن إيقاع الساعة. هناك انسجام لا داعي إلى تعريفه عقليا ونعيشه في هذا البلد الذي ارتضيناه موقعا لنا في الأرض.

وأظن أننا مجموعة واحدة فيما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، يراها الله واحدة في مقاييس لم يكشفها لنا وإذا صح الحديث الشريف: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام". فمن باب أولى القول: "أن خياركم في الإسلام مثل خياركم في المسيحية"، لأن التخلق بالله هو الوجود والانتساب الشكلي أو الإسمي ليس بشيء. فالصالحون في كل صقع هم خير امة أخرجت للناس وإذا فهمنا ذلك تأتي سياسة الأرض. هذه التي تفرّق عادة بين الناس بسبب من تباين المصالح وبسبب غلبة المصالح على الأهداف الروحية التي نبتغي. عند هذا يصبح المسيحيون أمة أرضية وربما كان كذلك المسلمون. "مملكتي ليست من هذا العالم" لا تختلف كثيرا عن أن الإسلام ليس فيه أصول حكم ولم يرد في التنزيل القرآني كلام عن الدولة وشكلها أو كلام واحد عن أن الدولة يسودها المسلمون. وعند تأسيس دولة الراشدين صار الكلام على أن غير المسلم من لا يسعه أن يكون خليفة أو قائد جيش أو قاضيا يقضي بالشرع ولكنه استوزر في العصر الأموي وكان عند بدئه يتولى بيت المال الذي هو مال المسلمين.

• • •

فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ما علاقة الفقه وهو علم بشري بما انزله الله على نبيه. هل كل الحديث في هذه الأمور سوى تاريخ بشري له قوة التاريخ وهشاشته. والسؤال الأعم هو أن القرآن إذا كان لا يخضع تفسيره للتاريخ أفلا يخضع التاريخ الإسلامي نفسه للتحليل التاريخي وتاليا لنسبية الزمان وهو من متقلبات الزمن. كل انغلاق في حدود الزمان هو اعتراف بأن ما جرى بعد الوحي له قيمة الوحي. في هذا الصدد لا تستطيع أن تتكلم على المسيحيين إذ لا قيمة للتاريخ عندهم إلا ما له صلة بالكلمة الإلهي وقيمته إذاً غير مطلقة وليس عندهم صورة حكم وهم يتشكلون روحيا في كل أمة وُجدوا فيها ولا يبتغون مناصب إلا في لبنان وقد عاشوا عبيدا في نظام الرق وأحرارا حيث منحهم الحاكم الحرية مع أنهم صبوا إلى الحرية في الإمبراطورية الرومانية التي كانت تضطهدهم وفهموا قول المعلم: "وتعرفون الحق والحق يحرركم".

وعلى ذلك ما من شك في أنهم لم يضعوا هم "حقوق الإنسان والمواطن" وقد كُتبت هذه أولا في الثورة الفرنسية التي قامت ضد الكنيسة السائدة سياسيا. غير أن الذي لا شك فيه أن الثوار الفرنسيين تأصلوا في الإنجيل ولو أرادوا أن يكسبوا معانيه لباسا علمانيا. البشرية العلمانية صقلها روح المسيح في الحضارة الأوروبية وهذا كان خير لسائر الناس. ولا ينكر إنسان حقوق الإنسان لمجرد أن الذين صاغوها كانوا مسيحيين إذ كان فيها نفع للناس. وإذا أيد القرآن الإنجيل والتوراة في غير موضع ففي المنطق نفسه يؤيد المسلمون حقوق الإنسان ولو كانت لغتها آتية من قريب أو من بعيد من الوحي المسيحي. وعلى هذا اقترب مفكرون مسلمون كثر من الحكم المدني في كثير من البلدان الإسلامية وقد لا يكون شكله بالضرورة العلمانية الفرنسية وهناك علمانية بريطانية تختلف. وقال به أئمة مسلمون في لبنان. هذا ما أرجو أن نعود إليه بعد هذه الحرب الشرسة التي شنت علينا.

وإذا أردنا وحدة هذا الوطن لا تستطيع فئة حكم الشرائح كلها أو لا تستطيع أن تخرج على روح حقوق الإنسان لئلا تخرج من الحداثة التي هي المصطلح الوحيد الذي يجمعنا. ولا يفهمن احد أني بالضرورة داعية لشكل قاس من حكم يتنكر لخصوصية

الطوائف ولنكهتها ولكني أدعو إلى رؤية الوطن اللبناني جماعة واحدة. هذا لا يعني أني أنا الأرثوذكسي لا أرى نفسي واحدا في المسيح مع الشعوب الأرثوذكسية وبمعنى أوسع مع كل الشعوب المسيحية ولكن هذا ليس له ترجمة سياسية إطلاقا. فقد تكون روسيا مثلا ضد مواقف بلدي وأكون، إذ ذاك، ضدها. على هذا المنوال كان الرئيس جمال عبد الناصر نصيرا للقبارصة اليونانيين ضد الاحتلال التركي للجزيرة وكان رئيس الأساقفة مكاريوس قريبا من العرب. هناك إذاً رؤية مدنية لسياستك الخارجية. وفي بلدنا قد يكون المسيحي المنفتح، الحر، قريبا من موقف إسلامي جامع أو المسلم "المدني" قريبا من المسيحيين في موقف وطني داخلي. في الوضع الحاضر كان المخلصون من المسيحيين ضد أميركا في تحالفها مع إسرائيل. ولا معنى سياسيا على الإطلاق لكون الأميركيين مسيحيين. أنا المسيحي مع إيران في تخصيب الاورانيوم لتكون محاذية أو مساوية لإسرائيل الحاصلة على السلاح النووي. السياسة مصلحة شعبك ككل. وهذا يقتضي أن تتخذ الموقف الذي يدعمك في السياسة الخارجية.

على هذا لا افهم في منطق حداثي عبارة "الأمة الإسلامية" إلا بمعنى شعوري لا يلزمك بموقف سياسي. أنا افهم جيدا أن يحزن المسلم لكارثة في الباكستان كما أحزن لكارثة في اليونان. ولكني إن كنت أعظم إنسانية احزن لحزن البلدين في القوة نفسها. إلى الناحية الشعورية العقل وفي هذا المضمار متابعة شؤون الأبحاث الشرعية في بلدان المسلمين والمسائل الفكرية المتصلة بالدين لان تقدم الفكر واحد في العالم الإسلامي. وعلى هذه الصورة يتابع اللاهوتي الأرثوذكسي مثلا ما يكتب على هذا الصعيد في موسكو وأثينا وبوخارست وما إليها. وفي الواقع نقرأ مجلاتهم ونتابع هواجسهم اللاهوتية لكوننا كنيسة واحدة.

• • •

العمل السياسي عمل المواطنين مجتمعين لأنه متعلق بالأرض التي عليها يعيشون. السياسة تأتي من شعورك بأنك تحيا ليس فقط مع كل مواطنيك ولكن تحيا بهم. تعطيهم وتأخذ منهم فتقرأ مشاعرهم وتراثهم وأسباب تصرفاتهم فتتأثر بهم ويتأثرون بك.

الوطن تاريخيا وشعوريا وأمام آفاقه واحد ولو كانت مصادر الشعور والسلوك متنوعة. والتنوع ينشئ الاختلاف في السياسة وفي الاختلاف صحة لأنه يدل على أن البشر أحياء ومستقلون احدهم عن الآخر. هم ليسوا نهرا فكريا واحدا ولكنهم روافد في أوقيانس البلد. وأنا لست أقول إن هذه الألوان لا علاقة لها بالعقائد التي تستلهم دينية كانت أم غير دينية ولكني أقول انك بهذه الألوان المختلفة ترسم لوحة البلد ولا ترسم لوحة بلد آخر.

فالكنيسة الجامعة كما نسميها ليس لها لون ثقافي واحد. لذلك ليس لها وجود سياسي في الدنيا ولا لها ارض واحدة. كذلك أمة المسلمين ليس لها وجود سياسي أو كيان عالمي إلا في ما يختص بالإيمان وأدبياته.

نتدارس إذاً أمور الدنيا في معيّشتنا وهذا الدرس له صورة وهي مجلس النواب وننفذ ما ندرسه في صورة وهي الحكومة كما نتدارس أمورنا في الصحافة والأحزاب وحلقات الفكر السياسي والأكاديميات وأنا واثق من أن العالمين والأفضلين خلقيا يستخرجون معا أفكارا متقاربة أو واحدة لتسيير البلد حتى تزول السياسة عندما يتجلى الله في اليوم الأخير.

المطران جورج خضر

نشرته صحيفة "النهار" في بيروت خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان

– صيف العام 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق